فصل: سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف:

في يوم السب خامس المحرم، وصل إلى مصر إسمعيل باشا والي مصر وبات ببر انبابة ليلة السبت المذكور وركب الأمراء في صبحها وقابلوه ورجعوا، وعدى الآخر وركب إلى العادلية وجلس بالقصر وتولى أمر السماط مصطفى بك الصغير.
وفي يوم الثلاثاء من المحرم ركب الباشا بالموكب ودخل من باب النصر وشق القاهرة وطلع إلى القلعة وعملوا له شنكاً ومدافع، ووصل الخبر بنزول إسمعيل بك إلى البحر وسفره من الشام إلى الروم وغاب أمره.
وفي أواخر شهر ربيع الأول وقعت حادثة بالجامع الأزهر بين طائفة الشوام وطائفة الأتراك بين المغرب والعشاء فهجم الشوام على الأتراك وضربوهم فقتلوا منهم شخصاً وجرحوا منهم جماعة، فلما أصبحوا ذهب الأتراك إلى إبراهيم بك وأخبروه بذلك فطلب الشيخ عبد الرحمن العريشي مفتي الحنفية والمتكلم على طائفة الشوام وسأله عن ذلك فأخبره عن أسماء جماعة وكتبهم في ورقة وعرفه أن القاتلين تغيبوا وهربوا ومتى ظهروا أحضرهم إليه، ولما توجه من عنده تفحص إبراهيم بك عن مسميات الأسماء فلم يجد لهم حقيقة، فأرسل إلى الشيخ أحمد العروسي شيخ الأزهر وأحضر بقية المشايخ وطلب الشيخ عبد الرحمن فتغيب وللم يجدوه، فاغتاظ إبراهيم بك ومراد بك وعزلوه عن الإفتاء، وأحضروا الشيخ محمد الحريري وألبسوه خلعة ليكون مفتي الحنفية عوضاً عن الشيخ عبد الرحمن وحثوا خلفه بالطلب ليخرجوه من البلدة منفياً، فشفع فيه شيخ السادات وهرب طائفة الشوام بأجمعهم وسمر الأغا رواقهم ونادوا عليهم. واستمر الأمر على ذلك أياماً ثم منعوا المجادلة والطبرية من دخول الرواق ويقطع من خبزهم مائة رغيف تعطى للأتراك دية المقتول، وكتب بذلك محضر باتفاق المشايخ والأمراء، وفتحوا الرواق ومرض الشيخ العريشي من قهره، وتوفي رابع جمادى الأولى.
وفي أواخر شهر جمادى الثانية، توفي الشيخ محمد عبادة المالكي.
وفيه جاءت الأخبار بأن حسن بك ورضوان بك قوي أمرهم وجمعوا جموعاً وحضروا إلى دجرجا والتف عليهم أولاد همام والجعافرة وإسمعيل أبو علي، فتجهز مراد بك وسافر قبله أيوب بك الصغير ثم سافر هو أيضاً، فلما قربوا من دجرجا ولى القبالي وصعدوا إلى فوق فأقام مراد بك في دجرجا إلى أوائل رجب، وقبض على إسمعيل أبي علي وقتله ونهب ماله وعبيده وفرق بلاده على كشافه وجماعته.
وفي منتصف شهر رجب، ظهر بمصر وضواحيها مرض سموه بأبي الركب وفشا في الناس قاطبة حتى الأطفال، وهو عبارة عن حمى ومقدار شدته ثلاثة أيام، وقد يزيد على ذلك وينقص بحسب اختلاف الأمزجة، ويحدث وجعاً في المفاصل والركب والأطراف ويوقف حركة الأصابع وبعض ورم ويبقى أثره أكثر من شهر، ويأتي الشخص على غفلة فيسخن البدن ويضرب على الإنسان دماغه وركبه، ويذهب بالعرق والحمام وهو من الحوادث الغريبة.
وفي عشرين رجب، وصل مراد بك من ناحية قبلي وصحبته منهوبات وأبقار وأغنام كثيرة.
وفي يوم الجمعة ثاني عشرينه الموافق لثاني شهر مسرى القبطي، وفا النيل المبارك ثم زاد في ليلتها زيادة كثيرة حتى علا على السد وجرى الماء في الخليج بنفسه، وأصبح الناس فوجدوا الخليج جارياً وفيه المراكب فلم تحصل الجمعية ولم ينزل الباشا على العادة.
وفي أواخر شهر شعبان، وصل إلى مصر قابجي باشا وبيده أوامر بعزل إسمعيل باشا عن مصر ويتوجه إلى جدة وأن إبراهيم باشا والي جدة يأتي إلى مصر وفرمان آخر بطلب الخزينة.
وفي شهر شوال وصلت الأخبار بموت علي بك السروجي وحسن بك سوق السلاح بغزة.
وفي يوم الخميس ثامن عشر شوال، عمل موكب المحمل وخرج الحجاج وأمير الحاج مراد بك وخرج في موكب عظيم وطلب كثير وتفاخر وماجت مصر وهاجت في أيام خروج الحج بسبب الأطلاب وجمع الأموال وطلب الجمال والبغال والحمير، وغصبوا بغال الناس ومن وجوده راكباً على بغلة أنزلوه عنها وأخذوها منه قهراً، فإن كان من الناس المعتبرين أعطوه ثمنها وإلا فلا، وغلت أسعارها جداً ولم يعهد حج مثل هذه السنة في كل شيء. وسافر فيه خلائق كثيرة من سائر الأجناس وسافر صحبة مراد بك أربع صناجق وهم عبد الرحمن بك عثمان وسليمان بك الشابوري وعلي بك المالطي وذو الفقار بك وأمراء وأغوات وغير ذلك أكابر كثيرة وأعيان وتجار.
وفيه حضر واحد أغا وعلى يده تقرير لإسمعيل باشا على مصر كما كان، وكان لما أتاه العزل نزل من القلعة في غرة رمضان وصام رمضان في مصر العتيقة. ولما انقضى رمضان تحول إلى العادلية ليتوجه إلى السويس ويذهب إلى جدة حسب الأوامر السابقة، فقدر الله بموت إبراهيم باشا وحضر التقرير له بالولاية ثانياً، فركب في يوم الاثنين سادس القعدة وطلع إلى القلعة من باب الجبل.

.من مات في هذه السنة من الأعيان:

مات الشيخ الفقيه الإمام الفاضل شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن عمر العريشي الحنفي الأزهري، ولد بقلعة العريش من أعمال غزة وبها نشأ وحفظ بعض المتون، ولما مر عليه الشيخ العارف السيد منصور السرميني في بلده وجه متيقظاً نبيهاً وفيه قوة استعدادية وحافظة جيدة فأخذه صحبته في صورة معين في الخدمة، وورد معه مصر فكان ملازماً له لا يفارقه، وأذن له بالحضور في الأزهر فكان يحضر دروس الشيخ أحمد البيلي وغيره في النحو والمعقول. ولما توجه السيد المشار إليه إلى البلاد تركه ليشتغل بالعلم، فلازم الشيخ أحمد السليماني ملازمة جيدة وحضر عليه غالب الكتب المستعلمة في المذهب، وحضر دروس الشيخ الصعيدي والشيخ الحنفي ولقنه الذكر وأجازه وألبسه التاج الخلوتي. ثم اجتمع بالمرحوم الوالد حسن الجبرتي ولازمه ملازمة كلية ودرجه في الفتوى ومراجعة الأصول والفروع وأعانه على ذلك وجد أن الكتب الغريبة عند المرحوم فترونق ونوه بشأنه وعرفه الناس، وتولى مشيخة رواق الشوام وبه تخرج الحقير في الفقه. فأول ما حضرت عليه متن نور الإيضاح للعلامة الشرنبلالي ثم متن الكنز وشرحه لملا مسكين والدر المختار شرح تنور الأبصار، ومقدار النصف من الدرر، وشرح السيد علي السراجية في الفرائض. وكان له قوة حافظة وجودة فهم وحسن ناطقة فيقرر ما يطالعه منن المواد عن ظهر قلبه من حفظه بفصاحة من غير تلعثم ولا تركيز. وحج في سنة تسع وسبعين من القلزم منفرداً متقشفاً وأدرك بالحرمين الأخيار، وعاد إلى مصر وحصلت له جذبة في سنة ست وثمانين وترك عياله وانسلخ عن حاله وصار يأوي إلى الزوايا والمساجد ويلقي دروساً من الشفاء وطرق القوم وكلام سيدي محي الدين والغزالي. ثم تراجع قليلاً وعاد إلى حالته الأولى ولما توفي مفتي الحنفية الشيخ أحمد الحماقي تعين المترجم في الإفتاء وعظم صيته وتميز على أقرانه، واشترى داراً حسنة بالقرب من الجامع الأزهر وهي التي كانت سكن الشيخ الحفني في السابق وتعرف بدار القطرسي. وتردد الأكابر والأعيان إليه وانكبت عليه أصحاب الدعاوى والمستفتون، وصار له خدم وأتباع وفراشون وغير ذلك. وسافر إلى اسلامبول بعد موت الأمير محمد بك لقضاء بعض الأغراض، وقرأ هناك كتاب الشفاء، ورجع إلى مصر وكان كريم النفس سمحاً بما في يده يحب إطعام الطعام ويعمل عزائم للأمراء ويخلع عليهم الخلع، ولما زاد انحطاط الشيخ أحمد الدمنهوري وتبين قرب وفاته وفراغ أجله ناقت نفس المترجم لمشيخة الأزهر إذ هي أعظم مناصب العلماء، فأحب الاستيلاء عليها والتوصل إليها بكيفية وطريقة، فحضر مع شيخ البلد إبراهيم بك إلى الجامع الأزهر وجمع الفقهاء والمشايخ وعرفهم أن الشيخ أحمد الدمنهوري أقامه وكيلاً عنه، وبعد أيام توفي الشيخ الدمنهوري فتعين هو للمشيخة بتلك الطريقة، وساعده استمالة الأمراء وكبار الأشياخ والشيخ أبو الأنوار السادات وما مهده معهم في تلك الأيام، وكاد يتم الأمر فانتدب لنقض ذلك بعض الشافعية الخاملين وذهبوا إلى الشيخ محمد الجوهري وساعدهم وركب معهم إلى بيت الشيخ البكري، وجمعوا عليهم جملة من أكابر الشافعية مثل الشيخ أحمد العروسي والشيخ أحمد السمنودي والشيخ حسن الكفراوي وغيرهم، وكتبوا عرضحال إلى الأمراء مضمونه أن مشيخة الأزهر من مناصب الشافعية وليس للحنفية فيها قديم عهد أبداً وخصوصاً إذا كان آفاقياً وليس من أهل البلدة. فإن الشيخ عبد الرحمن كذلك وموجود في العلماء الشافعية من هو أهل لذلك في العلم والسن، وأنهم اتفقوا على أن يكون المتعين لذلك الشيخ أحمد العروسي، وختم الحاضرون على ذلك العرضحال وأرسلوه إلى إبراهيم بك ومراد بم فتوقفوا وأبوا، وثارت فيهم العصبية وشددوا في عدم النقض ورجع الجواب للمشايخ بذلك، فقاموا على ساق وشدد الشيخ محمد الجوهري في ذلك وركبوا بأجمعهم وخرجوا إلى القرافة وجلسوا بجامع الإمام الشافعي وباتوا به. وكان ذلك ليلة الجمعة واجتماع الناس للزيارة، فهرعت الناس واجتمع الكثير من العامة ينظرون فيما يؤول إليه هذا الأمر وكان للأمراء اعتقاد وميل للشيخ محمد بن الجوهري وكذلك نساؤهم وأغواتهم بسبب تعففه عنهم وعدم دخول بيوتهم ورد صلاتهم وتميزه بذلك عن جميع المتعممين. فسعى أكثرهم في أنفذا غرضه وراجعوا مراد بك وأوهموه حصول العطب له ولهم أو ثوران فتنة في البلاد، وحضر إليهم علي أغا كتخدا الجاويشة وحاججهم وحاججوه ثم قال وتوجه وحضر مراد بك أيضاً للزيارة، فكلمه الشيخ محمد وقال: لا بد من فروة تلبسها للشيخ العروسي وهو يكون شيخاً على الشافعية وذاك شيخاً على الحنفية، كما أن الشيخ أحمد الدردير شيخ المالكية والبلد بلد الإمام الشافعي، وقد جئنا إليه وهو يأمرك بذلك وإن خالفت يخشى عليك. فما وسعه إلا أنه أحضر فروة وألبسها للشيخ العروسي عند باب المقصورة وركب مراد بك متوجهاً وركب المشايخ وبينهم الشيخ العروسي وذهبوا إلى إبراهيم بك ولم يكن الأمراء رأوا الشيخ العروسي ولا عرفوه قبل ذلك، فجلسوا مقدار مسافة شرب القهوة وقاموا متوجهين ولم يتكلم إبراهيم بك بكلمة. فذهب الشيخ العروسي إلى بيته وهو بيت نسيبه الشيخ أحمد العريان واجتمع عليه الناس وأخذ شأنه في الظهور. واحتد العريشي وذهب إلى الشيخ السادات والأمراء فألبسوه فروة أيضاً فتفاقم الأمر وصاروا حزبين، وتعصب للمترجم طائفة الشوام للجنسية وطائفة المغاربة لانضمام شيخهم الشيخ أبي الحسن القلعي معه من أول الأمر، وتوعدوا منن كان مع الفرقة الأخرى وحذروهم ووقفوا لمنعهم من دخول الجامع، وابن الجوهري يسوس القضية ويستميل الأمراء وكبار المشايخ الذين كانوا مع العريشي مثل الشيخ الدردير والشيخ أحمد يونس وغيرهم، واستمر الأمر على ذلك نحو سبعة أشهر إلى أن أسعفت العروسي العناية ووقعت الحادثة المذكورة بين الشوام والأتراك، واحتد الأمراء الأتراك للجنسية وأكدوا في طلب المحاققة، وتصدى العريشي للشوام المذب عنهم وحصل منهم ما حصل لأجل خلاصهم. فعند ذلك انطلقت عليه الألسن وأصبح الصديق عدواً وانحرف عنه الأمراء وطلبوه فاختفى وعين لطلبه الوالي وأتباع الشرطة وعزلوه من الإفتاء أيضاً. وحضر الأغا وصحبته الشيخ العروسي إلى الجامع للقبض على الشوام فاختفوا وفروا وغابوا عن الأعين، فأغلقوا رواقهم وسمروه أياماً ثم اصطلحوا على الكيفية المذكورة آنفاً، وظهر العروسي من ذلك اليوم وثبتت مشيخته ورياسته وخمل العريشي وأمروه بلزوم بيته ولا يقارش في شيء ولا يتداخل في أمر، فعند ذلك اختلى بنفسه وأقبل على العبادة والذكر وقراءة القرآن، ونزلت له نزلة في أنثييه من القهر، فأشاروا عليه بالفصد وفصدوه فازداد تألمه وتوفي في ليلة الخميس سابع جمادى الأولى من السنة، وجهز بصباحه، وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل وحضره مراد بك وكثير من الأمراء وعلي أغا كتخدا الجاويشية ودفن برحاب السادة الوقائية وذلك بعد الحادثة بتسعة وثلاثين يوماً رحمه الله تعالى. ومن آثاره رسالة ألفها في سر الكنى باسم السيد أبي الأنوار بن وفي أجاد فيها، ووصلت إلى زبيد وكتب عليها الشيخ عبد الخالق بن الزين حاشية، وقرظ عليها الشيخ العروسي والشيخ الصبان وله غير ذلك. خدا الجاويشة وحاججهم وحاججوه ثم قال وتوجه وحضر مراد بك أيضاً للزيارة، فكلمه الشيخ محمد وقال: لا بد من فروة تلبسها للشيخ العروسي وهو يكون شيخاً على الشافعية وذاك شيخاً على الحنفية، كما أن الشيخ أحمد الدردير شيخ المالكية والبلد بلد الإمام الشافعي، وقد جئنا إليه وهو يأمرك بذلك وإن خالفت يخشى عليك. فما وسعه إلا أنه أحضر فروة وألبسها للشيخ العروسي عند باب المقصورة وركب مراد بك متوجهاً وركب المشايخ وبينهم الشيخ العروسي وذهبوا إلى إبراهيم بك ولم يكن الأمراء رأوا الشيخ العروسي ولا عرفوه قبل ذلك، فجلسوا مقدار مسافة شرب القهوة وقاموا متوجهين ولم يتكلم إبراهيم بك بكلمة. فذهب الشيخ العروسي إلى بيته وهو بيت نسيبه الشيخ أحمد العريان واجتمع عليه الناس وأخذ شأنه في الظهور. واحتد العريشي وذهب إلى الشيخ السادات والأمراء فألبسوه فروة أيضاً فتفاقم الأمر وصاروا حزبين، وتعصب للمترجم طائفة الشوام للجنسية وطائفة المغاربة لانضمام شيخهم الشيخ أبي الحسن القلعي معه من أول الأمر، وتوعدوا منن كان مع الفرقة الأخرى وحذروهم ووقفوا لمنعهم من دخول الجامع، وابن الجوهري يسوس القضية ويستميل الأمراء وكبار المشايخ الذين كانوا مع العريشي مثل الشيخ الدردير والشيخ أحمد يونس وغيرهم، واستمر الأمر على ذلك نحو سبعة أشهر إلى أن أسعفت العروسي العناية ووقعت الحادثة المذكورة بين الشوام والأتراك، واحتد الأمراء الأتراك للجنسية وأكدوا في طلب المحاققة، وتصدى العريشي للشوام المذب عنهم وحصل منهم ما حصل لأجل خلاصهم. فعند ذلك انطلقت عليه الألسن وأصبح الصديق عدواً وانحرف عنه الأمراء وطلبوه فاختفى وعين لطلبه الوالي وأتباع الشرطة وعزلوه من الإفتاء أيضاً. وحضر الأغا وصحبته الشيخ العروسي إلى الجامع للقبض على الشوام فاختفوا وفروا وغابوا عن الأعين، فأغلقوا رواقهم وسمروه أياماً ثم اصطلحوا على الكيفية المذكورة آنفاً، وظهر العروسي من ذلك اليوم وثبتت مشيخته ورياسته وخمل العريشي وأمروه بلزوم بيته ولا يقارش في شيء ولا يتداخل في أمر، فعند ذلك اختلى بنفسه وأقبل على العبادة والذكر وقراءة القرآن، ونزلت له نزلة في أنثييه من القهر، فأشاروا عليه بالفصد وفصدوه فازداد تألمه وتوفي في ليلة الخميس سابع جمادى الأولى من السنة، وجهز بصباحه، وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل وحضره مراد بك وكثير من الأمراء وعلي أغا كتخدا الجاويشية ودفن برحاب السادة الوقائية وذلك بعد الحادثة بتسعة وثلاثين يوماً رحمه الله تعالى. ومن آثاره رسالة ألفها في سر الكنى باسم السيد أبي الأنوار بن وفي أجاد فيها، ووصلت إلى زبيد وكتب عليها الشيخ عبد الخالق بن الزين حاشية، وقرظ عليها الشيخ العروسي والشيخ الصبان وله غير ذلك.
ومات الشريف السيد قاسم بن محمد التونسي، كان إماماً في الفنون وله يد طولى في العلوم الخارجة مثل الطب والحرف وكان معه وظيفة تدريس الطب بالبيمارستان المنصور، وتولى مشيخة رواق المغاربة مرتين والأولى استمر فيها مدة وفي تلك المدة حصلت الفتن ثم عزل عنها، وأعاد الدروس في مدرسة السيوفيين المعروفة الآن بالشيخ مطهر، وله تقريظ على المدائح الرضوانية جمع الشيخ الأكاوي أحسن فيا، وكان ذا شهامة وصرامة في الدين صعباً في خلقه وربما أهان بعض طائفة النصارى عند معارضتهم له في الطريق، وأهين بسبب ذلك من طرف بعض الأمراء، وتحزبت له العلماء وكادت أن تكون فتنة عظيمة ولكن الله سلم. توفي بعد أن تعلل كثيراً وهو متولي مشيخة رواقهم وهي المرة الثانية، وكان له باع في النظم والنثر فمنها مدائحه في الأمير رضوان كتخدا الجلفي له فيه عدة قصائد فرائد مذكورة في الفوائح الجنانية.
ومات الإمام الفهامة الألمعي الأديب واللوذعي النجيب الشيخ محمد لهلباوي الشهير بالدمنهوري اشتغل بالعلم حتى صار إماماً يقتدى به ثم اشتغل بالطريق وتلقن الأسماء وأخذت عليه العهود وصار خليفة مجازاً بالتلقين والتسليك، وحصل به النفع. وكان فقيهاً دراكاً فصيحاً مفوهاً أديباً شاعراً له باع طويل في النظم والنثر والإنشاء ولما تملك علي بك بعد موت شيخه الحفني طلبه إليه وجعله كاتب إنشائه ومراسلاته وأكرمه إكراماً كثيراً ومدحه بقصائد ولم يزل منضوياً إليه مدة دولته.
ومات السيد قاسم بن محمد بن محمد علي بن أحمد بن عامر بن عبد الله ابن جبريل بن كامل بن حسن بن عبد الرحمن بن عثمان بن رمضان بن شعبان ابن أحمد بن رمضان بن محمد بن القطب أبي الحسن علي بن محمد ابن أبي تراب علي بن أبي عبد الله الحسين بن إبراهيم بن محمد بن أحمد ابن محمد بن محمد بن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الحسن بن إسمعيل الديباج بن إبراهيم بن الحسن المثني بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب أحد الأشراف الصحيحي النسب بمصر، فجده أبو جعفر يعرف بالثج لثجثجة في لسانه، وحفيده الحسين بن إبراهيم يعرف بابن بنت الروبدي وحفيده علي بن محمد مدفون بالصعيد في بلد يقال له دمشاوباشم، والمترجم هو والد السيدين الجليلين إسمعيل وإبراهيم المتقدم ذكرهما، صحح هذا النسب شيخنا السيد محمد مرتضى كما ترى، وكان حمام البابا في ملكه مما خلفه له سلقه، فكان يجلس فيه وكان شيخاً مهيباً معمراً منور الشيبة كريم الأخلاق متعففاً مقبلاً على شأنه رحمه الله تعالى.
ومات الإمام العارف الصوفي الزاهد أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ابن سعيد بن حم الكتاني السوسي ثم التونسي، ولد بتونس ونشأ في حجر والده في عفة وصلاح وعفاف وديانة، وقرأ عليه وعلى شيخ الجماعة سيدي محمد الغرباوي وعلى آخرين وتكمل في العلوم والمعارف مع صفاء ذهنه وسرعة إدراكه وتوقد خاطره وكمال حافظته، وكان والده يحبه ويعتمد على ما يقوله في تحرير نقله، ويصرح بذلك في أثناء درسه. وقد بلغ المترجم من الصلاح والتقوى إلى الغاية واشتهر أمره في بلاد أفريقية اشتهاراً كلياً حتى أحبه الصغير والكبير، وكان منفرداً عن الناس منقبضاً عن مجالسهم فلا يخرج من محله إلا لزيارة ولي أو في العيدين لزيارة والده، وكان للمرحوم علي باشا والي تونس فيه اعتقاد عظيم وعرض عليه الدنيا مراراً فلم يقبلها، وعرضت عليه تولية المدارس التي كانت بيد والده فأعرض عنها وتركها لمن يتولاها، وعكف نفسه على مذاكرة العلوم مع خواص أصحابه ومطالعة الكتب الغريبة، واجتمع عنده منها شيء كثير، وكان يرسل في كل سنة قائمة إلى شيخنا السيد مرتض فيشتري له مطلوبه، وكان يكاتبه ويراسله كثيراً.
ومات الفقيه الأديب الماهر أحمد بن عبد الله بن سلامة الأدكاوي نزيل الإسكندرية وأمه شريفة من ذرية السيد عيسى بن نجم خفير بحر البرلس، كان حسن المحاورة ولديه فضل ويحفظ كثيراً من الأشياء منها المقامات الحريرية وغيرها من دواوين الشعر. وناب عن القضاء في الثغر مدة وكان يتردد إلى مصر أحياناً وجمع عدة دواوين شعرية من المتقدمين والمتأخرين نحو المائتين، وطالع كثيراً منها مما لم يملكه. ولم يزل على حالة مرضية حتى توفي بالثغر سنة تاريخه.
ومات الشيخ الصالح المعمر خالد أفندي بن يوسف الديار بكرلي الواعظ، كان يعظ الأتراك بمكة على الكرسي، ثم ورد مصر ولازم حضور الأشياخ بمصر والوعظ للأتراك، وحضر معنا كثيراً على شيخنا السيد محمد مرتضى في دروس الصحيح بجامع شيجون في سنة 1190 وفي الأمالي والشمائل في جامع أبي محمود الحنفي، وأخبر أنه دخل دمشق وحضر دروس الشيخ إسمعيل الجعلوني وأجازه وأدرك جلة الأشياخ بديار بكر والرها وأزروم. وكان رجلاً صالحاً منكسراً وله مرأى حسنة ولا زال على طريقته في الحب والملازمة حتى مرض أياماً وانقطع في بيته ومات في رابع جمادى الأولى.
ومات الشيخ الفقيه الكامل والنجيب الفاضل أحد العلماء الأعلام وأوحد فضلاء الأنام الشيخ محمد بن عبادة بن بري العدوي، ينتهي نسبه إلى علي أبي صالح المدفون بالعلوة في بني عدي، قدم إلى مصر سنة 1164، وجاور بالأزهر وحفظ المتون، ثم حضر شيوخ الوقت ولازم دروس علماء العصر، ومهر في الفنون، وتفقه على علماء مذهبه من المالكية مثل الشيخ علي العدوي والشيخ عمر الطحلاوي والشيخ خليل والشيخ الدردير والبيلي، وأخذ المعقولات عن شيخه الشيخ علي العدوي الصعيدي وغيره ولازمه ملازمة كليه، وانتسب إليه حساً ومعنى، وصار من نجباء تلامذته ودرس الكتب الكبار في الفقه والمعقول، ونوه الشيخ بفضله وأمر الطلبة بالأخذ عنه وصار له باع طويل وذهن وقاد وقلم سيال وفصاحة في اللسان والتقرير وصواب في التحرير وقوة استعداد واستحضار وسليقة. ومن تآليفه حاشية على شذور الذهب لابن هشام متداولة بأيدي الطلبة نافعة، وحاشية على مولد النبي صلى الله عليه وسلم للغيطي وابن حجر والهدهدي، وحاشية على شرح بن جماعة في مصطلح الحديث، وحاشية عجيبة على جمع الجوامع وعلى السعد والقطب وعلى أبي الحسن، وحاشية على شرح الخرشي وعلى فضائل رمضان، وكتابة محررة على الورقات، والرسالة العضدية وعلى آداب البحث والاستعارات. ولم يزل يملي ويقرئ ويفيد ويحرر ويجيد حتى وافاه الحمام، وتوفي في أواخر شهر جمادى الثانية من السنة، بعد أن تعلل بعلة الاستسقاء سنين وكان يقرأ ليالي المواسم مثل نصف شعبان والمعراج وفضائل رمضان وغير ذلك نيابة عن شيخه الشيخ علي الصعيدي العدوي، ويجتمع بدرسه الجم الكثير من طلبة العلم والعامة رحمه الله.
ومات الأمير علي بك السروجي وهو من مماليك إبراهيم كتخدا وإشرافات علي بك أمره وقلده الصنجقية بعد موت سيدهم ولقب بالسروجي لكونه كان سكناً بخط السروجية. ولما أمره علي بك هو وأيوب بك مملوكه ركب معمها إلى بيت خليل بك بلفيا وخطب لعلي بك هذا أخت خليل بك وهي ابنة إبراهيم بلفيا الكبير وعقد عقده عليها، ثم خطب لأيوب بك ابنة خليل بك وعقد للأخرى على أيوب بك في ذلك المجلس، وشربوا الشربات وفرقوا المحارم والهدايا وانصرفوا، وعملوا العرس بعد أن جهزهما بما يليق بأمثالهما، وزفوا واحدة بعد أخرى إلى الزوج. ولما حصلت الوحشة بين المحمدية وإسمعيل بك انضم إلى إسمعيل بك لكونه خشداشه وخرج إلى الشام صحبته فلما سافر إسمعيل بك إلى الديار الرومية تخلفه المترجم مع من تخلف، ومات ببعض ضياع الشام كما ذكر.
ومات أيضاً الأمير حسن بك المعروف بسوق السلاح لسكنه في تلك الخطة ببيت الست البدوية وأصله مملوك صفية جارية الشيخ أبي المواهب البكري، وكان بن أخيها فاشترته واستمر في خدمة الشيخ أبي المواهب إلى أن مات، فسلك في طريق الأجناد وخدم علي بك إلى أن جعله كاشفاً في جهة من الجهات القبلية، فأقام بها إلى أن خالف محمد بك على سيده علي بك وذهب إلى قبلي، واجتمعت عليه الكشاف والأجناد وكان حسن هذا من جملة من حضر إليه بماله ونواله وخيامه، وحضر محمد بك إلى مصر وملكها من سيده علي بك. ولم يزل حسن هذا في خدمة محمد بك أبي الذهب فرقاه في الخدم والمناصب وصنجقه ولم يزل في الإمارة مدة محمد بك وأتباعه إلى أن خرج مع من خرج صحبة إسمعيل بك ومات ببعض ضياع الشام والله الموفق.